هل تعرفون هذا الشعور؟ شيء ما بين النوم واليقظة لا أميز فيه الحقيقة من الحلم ، فيه يتداخل كل شيء ، الواقع مع وسع الخيال ويصنع منع عالما جديدا. كنت أقود دراجتي في الشارع الرحب المشجر محاولا الاستمتاع برغم الأزيز المزعج الذي تصدره الدراجة حتى اصطدمت بشيء على الأرض لم أره .. وأستيقظ.
تذكرت حينها ان صوت الأزيز هو صوت مروحة السقف التي يمثل عناء أزيزها رحمة إذا قورن بلهيب حرارة يوليو ، وصوت الاصطدام هو طرقات متكررة على الباب نهضت لأجيبها.
أنا: الست دلال .. اهلاً وسهلاً.
دلال: اقفل يا شريف الموتور ... هيتحرق.
أنا: حاضر يا ست دلال فيكي الخير .. اتفضلي إشربي معايا الشاي.
دلال: لا مش فاضية دلوقتي فرصة تانية.
أغلقت الباب وأطفأت الموتور بعد أن ملأت البراد وأسلمته للنار لأشرب كوبا من الشاي كان في يدي بعد دقائق وفيه عودًا من النعناع الطازج ، قررت أن أشربه في الشرفة مودعًا آخر أشعة للشمس في ذلك اليوم الحار مطلاً على شارعي الضيق القابع في قاهرة المماليك.
رفعت الكوب لأراقب سلوك أشعة الشمس خلاله قبل أن تخرج الست دلال في شرفتها لتكيل للمكوجي نصيبه من الشتائم لأنه تأخر في إنهاء الملابس حتى الآن ، تشبه هذه السيدة فريدا كالو الرسامة المكسيكية لكن من الجانب الشرقي ، بجانب ثقافتها الواسعة ودراستها ومكتبتها التي طالما وجدت فيها ضالتي هي لا تختلف لأول وهلة عن طبيعة نساء المنطقة في الظاهر ، تحمل تناقضات واضحة فلم تكن دعوتي لها لشرب الشاي "عزومة مراكبية" رغم انها غير متحفظة في الملبس أو المظهر أو المعاملة ، لو رأى ساكن جديد لديها - فهي صاحبة العقار - ما كانت تلبس وهي على باب بيتي لفهم الأمور بشكل خاطيء تمامًا وهذا لا ينفي انها لبت رغباتها عدة مرات بعد وفاة زوجها على علم وتجاهل عمدي من الجميع فقد فرضت على الجميع طبيعتها الخاصة حتى صار الجميع متقبلاً لها دون غيرها من النساء والرجال أيضًا في بعض الأحيان.
أنهيت كوب الشاي وأسرعت في إرتداء ملابسي فلدي موعد مع كاهن الكنيسة لأعرض عليه مشكلتي التي تطبع على وجهي الحزن الذي يسألني الجميع عن مصدره وأستمر أنا بالانكار ، لكن لا مجال للهروب من المسئولية بعد الآن.
كاهن الكنيسة شخص معروف في المنطقة بشدة ، الجميع يجلونه ويحترمونه ، أتى قبل أعوام هذا المكان وأخذ على عاتقة توجيه حياة ساكنيها للأفضل بوجه بشوش ويد على يد كل محتاج للمساعدة دون أن يطلب حتى صار له في قلوب الجميع مكانة ، يضع في مكتبه صور له مع قيادات البلاد السياسية والدينية وخاصة مع الأم تريزا التي يعتز بها إعتزازًا خاصًا كما يقول دومًا.
الكاهن: خير يا شريف؟
أنا: الخطية يا أبونا ... الخطية.
الكاهن: مش عارف تتخلص منها.
أنا: أبدًا يا أبونا ، أنا بقيت متعايش معاها
مش عارف أبطلها ومش عارف مبطلهاش عشان مش مرتاح
الكاهن: مفيش راحة بعيد عن ربنا.
الأفكار الشريرة والأوقات الفاضية اللي بتفكر فيها في الأفكار دي موجودة دايما ، أنت جربت تلبي شهواتك وتغلط ومش مرتاح ، طب جرب مترضيهاش على حساب الروح وشوف النتيجة ، الانجيل بيقول ان اجرة الخطية موت وأكيد انت شفت الزاهدين بيموتوا وابتسامتهم على وشهم إزاي وفي نفس الوقت المشاهير كل يوم بينتحروا.
الله هو الخير هو الراحة واحنا بنسمي الشيطان عدو الخير ، طول ما انت أقرب لربنا هترتاح وطول ما انت قريب من الشيطان هتتعب
القديس أغسطينوس كان فيلسوف كبير ، بيفكر كتير زيك كده لحد ما عرف ربنا وقال انه حس انه على قمة العالم لما لقى نفسه لا يشتهي شيء ، تخيل كده هو قد إيه قوي لما يكون مش عايز أي حاجة على الأرض!
مش عارف تبطل خطية حاول تملا وقتك كله بربنا فيقل الوقت الفاضي اللي ممكن تغلط فيه ، تعالى اخدم معانا في الكنيسة.
أنا: بس يا أبونا ده يبقى أسمه هروب مش حسم.
الكاهن: صح .. إهرب .. بولس الرسول كان بيقول أهربوا من الشهوات الشبابية ، اهرب ، شوف هتهرب ازاي وفين بس اهرب وصدقني ساعتها بس هتلاقي الراحة.
أنا: شكرا يا أبونا.
عدت الى المنزل وأنا أفكر فيما قاله لي الكاهن ، هل يكون الحل في الهروب ، كنت أهرب طيلة حياتي حتى من الأسئلة وظننت ان الآن هو وقت الحسم ، القرارات البتارة التي تتخذ مرات معدودة في حياة الإنسان التي لا يملك سواها.
دخلت المنزل وجلست الى المنضدة بجوار المدخل أفكر حتى طرق الباب.
إنه درويش ، ليس هذا اسمه بل صفته وكسبها إسمًا ، هو أغرب دراويش المنطقة أطوارا حتى أن أتباع الطرق يعتبرونه مخبولًا ولا يعترفون به وليس له من المريدين سوى شاب أخرق يرى فيه النجاح في جذب النساء ، نعم فهذا الرجل كثيرًا ما تزرنه نساء يقضون معه الليل ويغادرون في الصباح ، ترى السيارات الفارهة تنتظر سواد الليل ركابهن ليعودوا بعد أن يفرغوا منه ، لا يعلم أحد كيف يجذب المترفات الي فراشه ، لكن يروي المراهقون عنه أن له قدرة جنسية خارقة وأن ذلك مصدر رزقه ، وهو يسكن في الدور الأعلى لكن لم يحدث أن دار بيننا كلاما من قبل. ماذا اتي به إلي؟!
درويش: ايه يا شريف مبتردش السلام ليه؟! .. مش هتقولي اتفضل.
أنا: اتفضل.
يبدو اني أطلت الذهول للدرجة التي أصمت أذناي عما قال الرجل في الثواني الأولى لدخوله بجلبابه الأبيض الفضفاض وعمامته الخضراء و أحجار سبحته الكريمه التي يفوح منها رائحة المسك دائما.
درويش: معلش يا شريف أصلي بعد ذكر الليلة اللي فاتت المفتاح أختفى من جيبي وست دلال مش موجودة .. ممكن أقعد عندك شوية؟
أنا: بيتك ومطرحك.
-وإستطردت في سري: ذكر! أنت جايلك عين إزاي؟!
-تشرب إيه؟
درويش: ينسون.
أنا: مفيش صدقني .. أعمل لك شاي.
درويش: مفيش مشكلة.
ذهبت لأعد له الشاي وأخذت أسترق النظر لأرى الحركات المفاجئة الغريبة التي يفعلها ، فجأة تذكرت راسبوتين المعالج الروحاني لأسرة رومانوف آخر قياصرة روسيا وأنا أنظر له وفي يدي الشاي . يا إلهي كم يشبهه.
درويش: بتبصلي كده ليه؟ بتشبه عليا.
أنا: آه فعلا. أصلك شبه واحد صاحبي روسي أسمه راسبوتين.
ضحك درويش بصوت مدوي وازداد معه خوفي.
درويش: مفكرني معرفش راسبوتين!
-وأستطرد ضاحكًا: كل ده عشان الِذكر وشوية النسوان اللي بيجولي ، ده أنت طلعت شايل مني قوي.
أنا: لا مقصدش.
درويش: لا .. تقصد!
-عمومًا أنا هسألك سؤال كل ابن آدم خطّاء مش كده؟
أنا: وخير الخطاؤون التوابون.
درويش: الله ينور عليك.
- سؤال تاني. لما يبقى واحد أبكم ، هل أجره عشان مكذبش زي أجر المتكلم؟
- أو هل أجر العنين عن البتولية زي أجر الشخص القادر؟ ... ساكت ليه؟
- طب هسألهالك بطريقة تانية. انت لو بتدخن تبقى عبد للتدخين صح؟
أنا: صح.
درويش: ولو مبتدخنش تبقى عبد لعدم التدخين!!
أنا: تقصد إيه؟
درويش: أقصد أن اللي مش بيقدر يعرف ستات لسبب أو لآخر وعامل فيها متدين وبيهاجم اللي بيعرفوا مالوش أجر.
أنا: بس هو مش بيغلط ومسيطر على نفسه.
درويش: هو مش بيغلط عشان مش قادر ، بس لقى التدين طوق نجاته من الاحراج!
أنا: قصدك ان الدين مجرد....
درويش: لا. بالنسبة له الدين مجرد.....
أنا: مش فاهمك.
درويش: أقصد ان الحل إنك تدخن شوية ومتدخنش شوية ، تعرف ستات شوية وشوية قدهم متعرفش.
أنا: وكده هعيش مرتاح يعني.
درويش: جدًا. هتبقى أقوى من أي شهوة ، من عملها ومن عدم عملها.
ساد صمت لدقائق أفكر فيه أنا ويشرب فيه درويش مشروبه حتى سمعنا صوت ست دلال على السلم ، فإعتدل درويش وفتح الباب ليأخذ منها مفتاحا آخر بديلًا للذي أضاعه.
درويش: المفتاح يا ست دلال.
دلال: تاني يا راجل يا مخبول انت كل شوية هتضيعلي مفتاح.
- ازيك يا شريف.
أنا: تمام يا ست دلال ، مش هتيجي تشربي الشاي بقى.
دلال: طب هحط الحاجة وأغير هدومي وأجيلك.
ملأت البراد وأسلمته للنار مرة ثانية وحضّرت الكوبين والنعناع وقبل أن تسخن المياه كانت الست دلال تطرق الباب فذهبت لأفتح وأستأذنها حتى أكمل إعداد الشاي.
وأخذت أسترق النظرات ثانية وأنا أعد الشاي ، لماذا إستثارتني لهذا الحد تلك المرة ، دائما ما تأتي إلى بملابسها الخفيفة التي تكشف الكثير من الساقين والثديين فلا جديد. أشحت عنها بنظري وأنتظرت ثوان حتى تهدأ دقات قلبي ويهدأ إنتصابي المفاجيء الفاضح قبل أن أعود إليها.
أنا: منورة يا ست دلال.
دلال: نورك .. مالك يا شريف مش مظبوط بقالك كام يوم؟
أنا: مفيش .. شوية زهق كده.
دلال: ده أنا خبزاك وعجناك .. وجاية أشرب الشاي معاك مخصوص عشان أشوف مالك.
أنا: هقولك .. عندي عدم إرتياح كده تجاه حياتي ، مش عارف أبقى متدين ولا عارف أبطل ذنوب.
دلال: ومين قالك إنك لازم اما تبقى متدين او تبطل ذنوب.
أنا: بس مطلوب مني إني أحاول ألتزم بجانب معين.
دلال: لأ طبعا.
- شوف أنت مطلوب منك انك تعيش ، تسلك في الدنيا وتعدي في الصعوبات اللي بتبقى قدامك وتصيب وتخطيء.
أنا: بس محاولش أصيب حتى.
دلال: تحاول تصيب بس الاصابة مش مطلقة.
- يعني لو واحد ساب ولاده يموتوا من الجوع عشان ميسرقش يبقى أكيد غلطان ، لو واحدة مباعتش جسمها عشان ولادها ميموتوش برضه غلطانه ، لو واحدة نامت مع واحد من غير جواز .. مش أحسن متتجوزه وتطلع ولادها معقدين.
- يعني الواحد ممكن يغلط غلطة صغيرة عشان ميغلطش غلطة اكبر ، زي لما تكون سايق وخلاص هتعمل حادثة ويا تقع من جبل يا تدخل في شجرة.
أنا: مش شايفه الكلام ده فيه شبهة تبريرللغلط ؟!
دلال: لأ طبعا .. بس القرار ده محتاج شجاعة ، مش أي حد ياخده .. والشخصيات اللي باتكلم عليها دي بينتقدها الناس وهي بتتعشى في المطاعم الفخمة.
- والموضوع ده اتطحن من أيام دستويفسكي في الجريمة والعقاب في شخصية راسكولنيكوف والبنت - مش فاكرة اسمها - اللي كانت بتشتغل في الدعارة عشان تأكل أهلها دي ، وفي اللص والكلاب بتاعة نجيب محفوظ وغيرها .. متقدرش تلوم الناس دي.
أنا: والله جايز.
دلال: أنت مشدود ومتوتر وعلاجك عندي.
قالت ذلك بنبرة صوت مختلفة ووضعت يدها على ركبتي من تحت المنضدة فشعرت برعشة وإنتصاب سريع مجددًا.
وأستطردت: هجيلك بكرة الساعة 7 أكون أستعديت ... وأنت كمان ظبط نفسك كدة.
شعرت منذ البداية أنها مختلفة هذه المرة ، لم أنم تلك الليلة وأنا أفكر ماذا أفعل؟ من أنا؟ وماذا أنوي؟ وإلام أهدف؟ من سأكون غدًا؟ وبأي النصائح سآخذ؟
لا أدري كيف مرت الساعات حتى دارت العقارب وإستقرت قبل السابعة ليلًا بقليل وإزداد توتري وقلقي ، دخلت وملأت البراد وأعددت لنفسي شايًا كالعادة ، ووقفت في الشرفة أتابع المارة حتى سمعت طرقات الباب فإهتز قلبي من مكانه ، لابد انها الست دلال ، ونظرت الى أقصى اليمين فرأيت الكاهن آت ، وها هو أيضًا الشيخ درويش على اليسار.
فقد بعثت لهما قبل قليل لأدعوهما الى منزلي في تمام السابعة .. ولنصل جميعنا معًا إلى حل في تلك الليلة.
نظرت في الملكوت كتير وانشغلت. وبكل كلمةْ ( ليه ؟ ) و ( عشانيه ) سألت. اسأَل سؤال .. الرد يرجع سؤال. واخرج وحيرتي أشد مما دخلت. عجبي !
صلاح جاهين