يحكي
التراث القبطي عن حادثة نقل جبل المقطم التي كان بطلها إسكافياً (صانع أحذية)
فقيراً يُروى عنه انه قبل تلك الأحداث قد قلع عينه بالمخراز لما إشتهى إمرأة عملاً
بوصية المسيح في الموعظة على الجبل حين قال "فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ
الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ
أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ".
ولا تكاد تخلو رواية عن القديس سمعان الخراز من نقدٍ له لقلع عينه
عملا حرفيًا بالوصية التي كان ينبغي فهم رمزيتها ، وهو - حسب مقصد المنتقدين - ما
عجز عنه إسكافيًا فقيرًا عاش في القرن العاشر للميلاد.
والقاريء لسيرة يسوع يلاحظ بوضوح نقده الدائم للكهنة والكتبة
والفريسيين وكل من يعمل الوصايا بشكل حرفي دون أن ينفذ المعنى الرمزي الى قلبه ،
وينتقد حتى تلاميذه عندما لا يفهمون المعنى الرمزي المقصود من وراء التعليم الذي
كان يبشر به ، الذي يصل الى حد الكمال ، بل قال يسوع صراحة في نفس الموعظة "فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ
كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِل".
والحديث عن الكمال له أهمية خاصة ، لأن الإنسان لديه شعور عميق بنقصه ونسب الكمال
الى كيان أكبر منه ينسب له الوجود وما حوله وكل ما عجز العقل القاصر عن فهم أسبابه
، وظلت البشرية في بحث دائم عن الله الخالق الكامل ، حتى ان ديكارت قد إعتبر بحث
الإنسان الدائم عن الكمال وإدراكه لنقصه في هو دليل على وجود الله حقًا ، وان
وجوده مزروع في إدراك البشرية منذ القديم. إذًا لعل المقصود من تعليم يسوع هو أنا
نسعى دائمًا نحو الكمال ونعترف بنقصنا وفسادنا ونعترف بصلاح الله ، ونجتهد طوال
الوقت أن نصل للكمال بالعمل بالوصايا التي علمها ، وليس تحويلها الى تعليمات تنفذ
بشكل حرفي ، وخاصة الظاهر منها للعيان حتى يثبت بها البعض صلاحهم بالمقارنة
بالآخرين ، ويستغلون ذلك الصلاح الظاهري في إستحقاقيتهم دون غيرهم في بعض
الإمتيازات ، بالضبط كما كان الكهنة والكتبة والفريسيون يفعلون في حياة يسوع.
ويتضح من الموعظة على الجبل ان كل التعاليم التي وردت فيها شديدة
المثالية بالفعل ، من منا قد يدر خده الآخر إلى من لطمه كل مرة؟! إن حدث ونفذ شعب
تلك الوصية لأفناه أعداؤه ومحوا ذكره. القديس أبو سيفين ، أو مرقوريوس كما تعرفه
الكنائس الغربية ، كان ضابطًا رومانيًا ذو مرتبة عالية ، صد إحدى غارات القبائل
الجرمانية ، حمل سيفه وحارب ولم يدر خده لأعدائه ولم يحبهم كما تنص الوصية ثم أعلن
كونه مسيحيًا أمام الامبراطور ما تسبب في إعدامه..
وأبو سيفين هو القديس الذي تحمل كنيسة إمبابة المحترقة إسمه ، التي
إستمر كاهنها في الصلاة أثناء الحريق ربما عن إعتقاد خاطيء ان عليه الاستمرار فيها
، وان إستمراره في الصلاة قد يطفيء الحريق مثلاً ، ولكنه بوضوح وضع السبت قبل
الانسان لا الإنسان قبل السبت بخلاف ما كان يُعلّم يسوع ، وتناسى أيضاً ان الصلاة
الأفضل هي صلاة الفرد وحده خلف باب مغلق كما أوصى يسوع في نفس الموعظة على الجبل.
وبنفس المنطق المعوج نعى بعض الأقباط الضحايا بقولهم "يا بختهم" حتى
حولوا الحادث الى سباق رخيص لإظهار صلاحهم الزائف فوق جثث إخوتهم المحترقة ، بدلاً
من إستغلال الموقف لمحاسبة المسؤولين عن إهمال أنظمة الإطفاء في الأماكن الدينية ،
أو حتى محاسبة الدولة على تقييد بناء الكنائس مما أدى لذلك الإكتظاظ ، وتغليب
الجلسات العرفية على قوانين الدولة الحديثة التي قد نجح محمد علي في تجاوزها
وحسمها قبل قرنين.
منذ أسابيع مُنعت من الدخول من الباب الخارجي لإحدى الكنائس لأني ألبس "شورت" وهو أمر منافٍ لتعليمات كاهن الكنيسة على حسب تعبير موظف الأمن ، الذي طلب مني عدم الدخول حتى لا أتسبب في معاقبته ، وأبطال ذلك المشهد العبثي: الكاهن والموظف وأنا نتبع عقيدة أرساها يسوع الذي كان يوبخ الكهنة على تمسكهم بالمظهر ، ويقبل أن يجلس ليتحدث مع العاهرات عندما يأتين إليه ، ويقبل دعوة العشارين ، حتى أن كاتب الانجيل الذي نقرأ فيه الموعظة على الجبل كان عشارًا وغاب كل ذلك عنا ونحن ننشغل بحماية تماسك المجتمع بالتمسك ببعض المظاهر على حساب صلب العقيدة.
يتمسك
قادة الكنيسة الآن بالقيود المفروضة على الطلاق ، تطبيقًا حرفيًا لتعليم يسوع في
الموعظة على الجبل أيضًا ، بالضبط كما فعل سمعان الخراز ، والقيود المفروضة على
طلاق المسيحيين في مصر ليست مجرد قيودًا دينية ، أي يعاني من يخالفها رفض مجتمعه
الكنسي ، ولكن تمتد القيود للجانب القانوني والرسمي في تقسيم للسلطة على الأقباط
بين الكنيسة والدولة ، أي لا مخرج للطلاق إلا من خلال الكنيسة. وتبيع الكنيسة صك
طلاق لمن تراه يستحقه في شكل إيصال تبرع إجباري في نهاية الأمر لطالبيه وهي نظير
شهادة ينبغي تقديمها للمحكمة لإقرار الطلاق رسميًا! وتلك الشهادة تصدر عن راهب
تدرج في الرتب الكنسية ، وليس خفي على أحد ان الرهبان لم يمروا بخبرة الزواج. وليس
خفي على أحد أيضًا تمدد سلطتهم حتى تشمل زواج الأفراد وطلاقهم ، وهم من يفترض بهم
أن يكونوا نساكًا زاهدين في الأساس ، صاروا قضاة يحكمون ويتحكمون في حياة الأفراد
بقوة السلطة المقتسمة مع الدولة ، وصاروا سبباً في شقاء الناس أو سعادتهم!
والواقع ان منع الطلاق ، ومعها إجازة أكل لحم الخنازير مثلا من ملامح المجتمعات
المسيحية ، وفيه ترجمة لفلسفتها وقت ظهورها ، تفرقها مظهرياً عن المجتمع اليهودي
الذي خرجت منه ، وهي ضرورة إجتماعية وسياسية لبناء المجتمع للمرة الأولى لكنها
ليست صلب العقيدة والتي نحتاج لضبطها بأن نضع لها حراساً بصولجان سلطة.
يحكي التراث القبطي أيضًا عما يسمى بشجرة الطاعة ، وحسب الرواية أن أحد الرهبان أعطى لتلميذه عصاً يابساً ليزرعه ، ظل التلميذ يسقي العود اليابس لسنوات حتى كبرت الشجرة وأثمرت ، وسميت بشجرة الطاعة وثمرها بثمر الطاعة ، وهذه الدرجة من الطاعة التي تبشر بها القصة قد تعد فضيلة في مجتمع الرهبان المغلق ، ولكنها لا تعتبر فضيلة بمعايير عالمنا والعصر الذي نعيش فيه ، بل ربما كان من الأفضل أن يستغل التلميذ وقته في شيء مفيد على أن يضيع سنوات من عمره يسقي عوداً يابساً ، ولكانت ثمار الشك والتفكير أفضل وأكثر من ثمار الطاعة العمياء ، وكان التلميذ المفكر أفضل لنفسه ومجتمعه من التلميذ المطيع.
لا أغفل بالطبع أهمية المجتمع وتماسكه ، وأشارك الجميع إرثه ونصيب الأجداد من بناءه وحفظه ، ولكن عندما نبتعد كثيرًا عن صلب الأفكار التي بنيت عليها العقيدة لصالح تماسك المجتمع فإننا نخاطر بإنهيار وتبدد كل شيء ، وهنا يجب علينا جميعاً مراجعة ما نفعل بأنفسنا ، بالتفكير لا بالاعتماد على الآراء الجاهزة ، رغم ان الاحتكام لآراء المجموع وخاصة عندما يؤيدها رأس المجموعة الدينية وهو من المفترض أن يكون راهباً أو كاهناً يعطي شعوراً بإرضاء المجموعة وضماناً للوجود في وسطها وبالتالي إحساساً أعمق بالأمان والإطمئنان ، وبالتبعية يصبح صاحب الرأي المختلف - ولو كان على صواب - عدواً لأنه يهدد ذلك الشعور الجمعي بالإطمئنان ، ذلك الشعور الذي يجب علينا مقاومته لإصلاح العوار القائم ، ربما نحمي الأجيال القادمة من الموت حرقاً وهم يبحثون عن الإطمئنان في الكنائس ، أو نحمي الأزواج غير السعداء من حكم مؤبد عليهم بالشقاء عقاباً على إختيار خاطيء ، ربما تدرك الأجيال القادمة ان الدين قد أُوجد من أجل الإنسان لا الإنسان من أجل الدين ، وان عشاراً أو سامرياً كانوا أفضل من الكاهن حسب يسوع ، وأن الله لا يسعد بشقاءنا ، ولا يُسر بقلع العيون!