ذهب النسران لبيت الأسد ميمباو ملك الغابة ، الذي يقبع تحت الصخرة الكبيرة على التل الأعظم ، ولبثا منتظرين خروجه لملاقتهما.
في تلك اللحظات شردت عيون النسر المغير في مشهد الغابة من فوق تل بيت الملك ، كل شيء يمكن مشاهدته بوضوح الآن ، الغابة كاملة بأشجارها التي شاخت وإنتشر بها السوس ، والقرود تقضي وقتها الذي تجتهد في اضاعته هباء ، والأفيال التي صارت عبئا على المملكة ، والجاموس الوحشي يأكل من الحشائش كطبيعته ينتظر يوما جديدا ليكون صيدا لميمباو المتكبر وعائلته ، الذي صارت حياته أكثر سهولة منذ أن كان إتفاقهما في ذلك المكان قبل عشر سنوات بمساعدة مجتمع النسور لعائلة ميمباو في الصيد قبل أن يبدأ في بناء مجتمع النسور القوي الذي يرى أعشاشهم الشامخة على اليمين من مكانه الآن.
فجأة قاطعه زميله قائلا : فيم يريدنا ذلك الشيخ الأخرق ميمباو يا ترى؟
أجابه المغير مبتسما: لا أدري.
بين المغير ورفيقه لغة غير منطوقة فهم رفاق منذ زمن بعيد وشركاء في بناء عائلة النسور ، وصاحب فكرة أن يهاجم النسور الجاموس الوحشي أولا بالأحجار التي يلقونها عليهم من فوق قبل أن تلتقي الأسود فريستها السهلة المنهكة ، فهو يحمل منصب رئيس الأغصان وهو الرجل الثاني في العائلة بعد المغير الذي يستشيره في كل صغيرة وكبيرة.
عاد المغير للشرود في مشهد الغابة من جديد حتى ضربه رئيس الأغصان بخفة لينبهه بظهور ميمباو ليفردا جناحيهما ويحنيا رؤوسهما كما التحية المفروضة للملك.
كان ميمباو ضخما قويا كعادته ويسير بعزة وثبات بالرغم من التجاعيد التي كست وجهه والسواد الصارخ حول عيناه معلنا عن الشيخوخة التي تفترسه وهو الذي اعتاد الفرائس.
أشار لهما بالإعتدال ليبدأ معهما الحوار الذي دعاهما من أجله ولكن سبقه المغير: قبل أن أضطر لمقاطعتك سيدي لكني أرى السوس في الأشجار قد وصل حد الخطورة.
ميمباو: ليس هذا ما يشغلني الآن فتلك مهمة يسهل التغلب عليها لاحقا ، بعض البشر يقتربون ومعهم بنادقهم ولابد أن نلقنهم درسا.
المغير: نسور الغابة تحت أمر ملكها يا سيدي.
ميمباو: سأقود أسود العائلة لنهاجمهم بعد أن تقذفونهم بالحجارة.
رئيس الأغصان: لكن يا سيدي سنحتاج للقرود لتنقل لنا الحجارة من الجبل الخلفي.
ميمباو: لك ما شئت.
سأنزل بأسودي عند الشجرة الكبرى مع الغروب.
رئيس الأغصان: وستجدنا هناك قبلا يا سيدي.
وأستطرد في سره: أيها الحقير ، لتنجو بأسودك ونظل كالعادة نحن القتلى والجرحى.
***********
ومع قرب الغروب وإكتساب الشمس للون الأحمر وإنعكاس اللون على كل الموجودات تحت الشمس كان ميمباو يسير على رأس عائلتة الملكية المستعدة للقتال ، ولوحظ الظلال العظيم الذي يلقيه سرب النسور الآتية في آية من النظام ليهبطوا جميعا ويؤدون التحية أمام الملك الذي توجه للتبة المرتفعة أمام الشجرة الكبرى ليتحدث للجميع قبل المعركة.
وطفق في حديثه يشجع الجميع على الحرب ، ولم تسعفه عيناه المسنتان لرؤية ما يحدث في صفوف النسور الخلفية من تبرم وتملل.
كان المغير شبه غافلا عن الخطبة المملة التي طالما سمعها قبلاً ، وكان تركيزه منصب على الشجرة التي تقبع خلف ميمباو وهو يرى السوس قد غطى أجزاء كاملة منها وقال: ياللحمق .. ألا يعتبر ما يحدث للأشجار خطر ، يوما سنستيقظ نجد غابتنا بلا أشجار.
وكأنه كان يتنبأ ، حدث ميل مفاجيء للشجرة الكبرى ، فصرخ إحترس يا سيدي.
نظر ميمباو خلفه وجد الشجرة تميل عليه ، فما كان منه أن فتح فكه على إتساعه ليمسك بالشجرة كأنه بات ذلك الأسد الجبار اليافع الذي كان قادرا على خلع جذوع الأشجار بأنيابه ، ولكنه هوى وفوقه الشجرة وقد ملأت الدماء فمه.
إندفع الجميع لنجدة القائد وأولهم المغير ورئيس الأغصان ، بالرغم من عنيف النقد له لم يتخيلا بديلا له.
رفعوا عنه الشجرة وهو في قمة الإعياء ، مكسور الأنياب ، منهك القوى ، وهو يوجه حديثه للجميع عليهم دخول المعركة بدونه بينما سيظل هو في الصفوف الخلفية لدعمهم.
إلتقت عينا المغير ورئيس الأغصان وملؤهما العجب. كيف يحاربون دون ميمباو؟!
إن ميمباو المسن بالرغم من انه لم يعد كسابق عهده لكنه يشكل أكثر من نصف قوة الأسود ، هيئته العظيمة المخيفة في المقدمة ، زئيرة المرعب الذي يُسمع عن بعد ، غير أنه قائد بارع ولا يظهر في كل الصفوف الخلفية من يقدر أن يقوم بذلك الدور في المقدمة.
لكن لا مفر الآن من المعركة ، بدأت النسور في إلتقاط الحجارة والذهاب لمكان المعركة في تجمعات كبيرة وحسبما كان ميمباو مخططا تحركت الأسود بعد دقائق من هجوم النسور لتفتك بفريستها بينما هم مشغولون بالنسور.
وإندفعوا على البشر لكنهم وجدوا الرصاص يخترق صفوفهم وأبدانهم وبدءوا يتساقطون بسرعة في صدمة غريبة لجميعهم ، ولاحظ البعض الآخر أن ظلال النسور التي تكون ساقطة عليهم غير موجودة كما إعتادوها ، فطفقوا ينظرون لأعلى بحثا عن نسور في السماء حتى باتت مهمة اصحاب البنادق شديدة السهولة.
في الجهة اليمنى اجتمع كل النسور أمامهم المغير ورئيس الأغصان ليشيروا لهم ببدء التحرك أخيرا مع إنشغال البشر بحصاد الأسود ، لم يحتمل القائدان الإعتماد على الأسود بدون ميمباو في مخاطرة واضحة وتهديد لكيان العائلة التي بنياها ، بل والغابة بأسرها ، فقررا قلب الخطة.
أمطرت الأحجار على البشر وهم منشغلون بإصطياد الأسود التي هرب منها من إستطاع ، وبدأ بعض النسور بالهجوم مباشرة للمرة الأولى على البشر حتى قتل منهم من قتل وهرب من هرب حتى زال الخطر.
********
عادت البقية الباقية من الأسود يحاولون فهم ما حدث ، وأستدعى الغاضب ميمباو المغير ورئيس الأغصان ليحاسبهم على الخطأ أو الخيانة ومن خلفه أسوده.
ظهر في الأفق النسور الطائرة لكنهما لم يكونا اثنان فحسب بل الكثير من النسور يحملون بمخالبهم جثث كثيرة لقرود الغابة وطرحوها أمام ميمباو.
رئيس الأغصان: تخازل القرود عن عملهم في جمع الأحجار فعاقبناهم ، لكننا لم نستطع إخطاركم لحساسية الموقف.
المغير: إقبل منا إعتزارنا عما حدث لأنه لم يكن بأيدينا.
ميمباو: بل أنكم خائنين وتحاولون إلصاق التهم بالقرود ولابد من أن تأخذا جزاءكما.
المغير: سيدي لست في حالة تسمح لك الآن بفعل شيء سوى الراحه ، ألا تنظر لنفسك وقد كُسرت أنيابك وجرح أصحابك.
شعر ميمباو ببالغ الإهانة في تلك اللحظة ، أنياب الملك هي تاجه كما كان يردد السابقون ، ونظر وراءة ليشاهد بقية العائلة التي تدعمه وقد أدماه ما رأى حتى صدمه رئيس الأغصان بقوله: وأسمح لنا يا سيدي لضرورة حماية الغابة بسكنانا في البيت الملكي فوق التبة العليا حتى تتعافى ، ليتسنى لنا التحرك فور رؤية الخطر عن بعد.
وفي تلك اللحظة مال أحد صغار النسور على أذن المغير يسأله : أليس ذلك ضد القانون الأول "الأسد ملك الغابة" ؟
أجاب عليه المغير بإبتسامة : الغابة اهم من قانونها الأول.
********
وصار النسور يرسلون سائر أنواع الطيور ليهتفوا في الغابة كل صباح "النسر ملك الغابة" حتى أعتادت الحيوانات الجملة الجديدة ، و أصبحوا يرددونها هم الآخرين.
....ودارت الأيام.
*************
"لا يعمل اعزل ومسلح معا ، لأن أحدهم محتقر والآخر كثير الشك "
"لا يطيع المسلح اعزلا"