تجولت كاميرا مخرج كليب عمرو دياب الجديد (القاهرة) بين شرفات فنادق المدينة الفاخرة المطلة على النيل تنقل المشهد الجميل - بحق - أمام عيون الجميع من الأعلى حيث يراها من هم مرتفعين عن الأرض ، يظن فريق العمل إنه يقدم خدمة للوطن بهذه الطريقة ، دعمًا للسياحة ، أو ردًا لجميل المدينة ، أو حتى تذكيرًا لمن نسوا الجانب الجميل للقاهرة وإن تآكل وصار أصغر من أن تلحظه العين وسط القبح.
قبل خمسة و عشرين عامًا ، كان يوسف شاهين يصور فيلمًا عن القاهرة ، وقتها لم تكن مشكلات العاصمة بنفس حجمها ، وكان جانبها الجميل أكثر طغيانًا على القبح فيها ، أبرز شاهين نفس مشهد النيل من الأعلى ، من شرفة مكتبه على خلفية حديث لنفسه بالفرنسية عن كيفية حبه للقاهرة ، وعندما وصل لنتيجة ان حبه للأحجار بلا قيمه دون سكانها ، قرب شاهين الصورة خلف الأبراج الفاخرة حيث الأحياء العشوائية المستترة خلفها ، وعرض في 20 دقيقة مشاهد لسكان القاهرة ، تناول فيها مشكلاتهم في جمع مذهل ، قبل أن تتفاقم لتصل إلى الحالة التي نعيشها الآن ، أورد شاهين كل ما نعانيه حاليًا قبل ربع قرن في مشاهد قصيرة صادمة ، أورد البطالة ، سوء التعليم ، الفقر المدقع و الغنى الفاحش ، البناء على الأراضي الزراعية ، الهجرة للمدن ، الفوضى المرورية ، الجماعات الجهادية ، التدين الظاهري ، التحرش والسياحة الجنسية ، المشاحنات الطائفية ، إنهيار الأخلاق والمباديء ، عمالة الأطفال ، قضية إزالة مثلث ماسبيرو.
كانت ردود الأفعال عنيفة ، إنسحب أعضاء الوفد المصري الحاضر لمهرجان كان بعد عرض الفيلم ، ويُقال أن وحيد حامد إشتبك مع يوسف شاهين بالأيدي بعد العرض ، ومن الإعلام وُجهت لشاهين إنتقادات حادة ، أرجعها البعض لمؤامرة يهودية مستتره خلف تمويل فرنسي ، وكتب أحد النقاد "ان فيلم شاهين الذي يطوف به هذا المعتوه بين عواصم أوروبا بحثاً عن جائزة حقيرة يؤكد أنه في حاجة إلى دخول عيادة نفسية تعالج ما حاك في أعماقه من خراب." بحسب ما كتب إبراهيم حاج عبدي في الحياه اللندنية في 11 فبراير 2010.
غنى أشهر الفنانين لبلدانهم ، صنعوا أفلامًا عن مدنهم ، كل تلك الأعمال الفنية صنعت مجد البلدان والمدن ، لأنها صنعت بصدق دون توجيه أوغرض دعائي ، صنعت بإجتهاد و إخلاص ، ليست مجرد "سلق بيض" كأغانينا وأفلامنا الدعائية ، التي تخرج للحياة محكوم عليها بالموت ، لست معترضًا بالتأكيد على الأغاني الوطنية ، وأحب أن أسمع أغنيات تتغزل في باقيات القاهرة الجميلة بإعتبارها عاصمة بلادي في النهاية ، لكن تلك الأخيرة لم أستطع مجرد تصديقها.
لكني أصدق كلمات شاهين ، أصدق فيلمه عن القاهرة ، أصدق حبه لأهلها ، أرى صرخته العنيفة لإنعاش المريض المصري ، بلا فائدة ، تمنيت أن أعود للماضي لأرد إعتباره و أحكي عن مصر بعد خمسة و عشرين عامًا و هي تعاني الأمرّين بسبب منطق محاسبة المتسبب في معرفة العالم بالحقيقة السيئة بدلاً من محاسبة المتسبب في الحقيقة نفسها ، أحكي لهم عن الوضع البائس الذي نعيشه و أحذرهم. ولماذا أحذر السابقين إن كان خلفاؤهم يسيرون على نفس طريقهم؟!
الموضوعية مفقودة في مصر ، والحقيقة ضائعة ، لذا وسط تلك المنظومة التي تهوى دفن الحقيقة و تضليلها ، يبقى الإختيار الأفضل هو نشر السلبيات قدر المستطاع ، حتى تشكل وسيلة ضغط على من يعتبرون أنفسهم أشباه آلهة ، لا نستر على خطأ ، ماذا صنع بنا الستر ، لا تصدق من يقولون سمعة مصر ، سمعة مصر من سمعتنا ، و سمعتنا في الحضيض بالفعل ، ربما حان الوقت لطريقة تعاطٍ جديدة مع مشكلاتنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق