حتى إضاءة الغرفة في تلك اللحظة لم توقظني ، كانت نظرات أبي في الساعة ونظراته لأمي كفيلة بجعلها تصرخ فيّ لأستيقظ من نوم كان أحلى شهواتي لحظتها.
لم يكن بوسعي الا تسليم نفسي بالكامل لهم "ارفع ايدك." ، "ارفع رجلك دي ، التانية." ، "أقعد." ، "قوم."
كانت تلك مجموعة الأوامر المستخدمة لإلباس أي طفل ثيابه.
كان تركي لخمس دقائق كفيل بعودتي لرحلتي في فضاء صفاء الذهن المسمى بالنوم ، وكان كفيلا بوصول ضغط الدم لدى أمي إلى حد يصعب تفريغه الا في الصراخ.
انقدت مجددا إلى الحوض ليستقبل وجهي يدا مبللة بماء بارد له فعل الصعق الكهربائي ، تمنيت للحظة أن تطال يداي هذا الشيء الذي تديره فيمنع الماء فمددتهما على إتساعها بلا جدوى قبل ان أُجتذب بعنف "حاسب تبل هدومك".
وكان ذلك إيذانا ببدء الرحلة في الشارع وكان من شروطها الدائمة ابقاء يدي اليسرى مفرودة معلقة الى أعلى حيث يمنى أمي والجري لتعويض إتساع خطواتها عن خطواتي.
تستمر رحلة العذاب تلك مع وقفات متقطعة لمشاهدة الملابس على التماثيل لعلها تناسبني ، وإذا ورد احتمال بأنها مناسبة على ذهنها فتبدأ مرحلة أخرى من العذاب بتكرار أوامر قياس الملابس "ارفع ايدك." ، "ارفع رجلك دي ، التانية." ، "أقعد." ، "قوم."
ثم أتحول كما التمثال الذي تجمعنا حوله قبل دقائق ، الجميع ينظر لي والكل يدلو بدلوه فيما يرى ويبقى القرار للكبار ، وفي الغالب يأتي بالرفض بحجج متنوعة لأني لم أبك من فرط ما سرت بعد.
كان من النادر أن يعجبني أي من تلك الملابس ولم يكتشف فيه الكبار عيبا خطيرا كان عليهم إنقاذي منه ، حتى من غير الملابس كنت أتوقف وأسحب يسراي من يمنى أمي لأقف أمام محل لعب أطفال ، تلك اللحظة كانت صراعا واجبا عليهم الانتصار فيه لجيوبهم ولإتقاء صداع رؤوسهم لو تمسكت بشيء ، فيأتي أبي ليعقد معي اتفاقا "اتفرج بس مش هنشتري حاجة انهاردة ، يوم تاني" فأوافق وأحدد معه ماذا أريد من هنا وهناك في هذا "اليوم التاني".
ومع مرور الوقت تزداد شكواي من المشي والوقوف ويزدادون استجابة لي فيما أطلب ويتسع سقف مطالبي الى أن يبلغ سقف الجنيهان فيستجيبا إتقاء صراخ طفل موهوب فيما يفعل ، وتزداد مرات وقوفي أمام ما يعجبني من محلات ، أتأمل فاغرا فاي أمام ما لم أعتد عليه كالتلفزيونات الكثيرة التي يصل بعضها لطولي وكلها تعرض أحدى الأغنيات في توافق غريب ، كان يغني ويرقص وأقول لأمي إني عرفت ما يغني في حصة الحساب فتبتسم.
وأكرر التوقفات حتى يبلغ بهم الغضب حده الأقصى فيقدمون على ضربي فأبدأ في نوع من الصراخ الذي يستمر طويلا فتتدخل جدتي وتضمني وتمرر يديها علي مكررة " يا ست يا عدرا حبيه ، وحياة ابنك الحبيب ما تنسيه ، لبسيه توب الطاعة ، والصبر والقناعة ، وطولة البال في كل ساعة ، آمين آمين .. كرياليسون" حتى أهدأ تماما وأستغل ذلك لزيادة طلباتي وانتزاع وعودهم.
ودائما ما يكون ذلك إيذانا ببداية النهاية لليوم الطويل لشراء ملابسي التي نجدها أخيرا من قبيل الصدفة البحتة ، وأجيب عن السؤال الروتيني الأخير "أيه رأيك." لأجيب "حلو."
لنعود في النهاية الى منزلنا وأعود الى سريري بعد ان تضاعفت رغبتي لمعانقته.
وتمر الأيام لأصير من هؤلاء الكبار ويكون الصراخ الذي يوقظني هو صراخ منبهي ، واليد الباردة هي يدي ، وما يرهق قدماي هي رغبتي ، وما يرفض حاجتي هو جيبي ، وأكتشف أن "أجمعي وأطرحي أقسمي وأفرحي" التي كان يغنيها حميد لم يقصد منها عمليات حسابية وأن من يرقص وراءه سيحلق شاربه ويرقص ويغني منفردا وأسمه هشام عباس.