أذكر صدمتي أنا أيضًا عندما هُمس في أذني للمرة الأولى إجابة عن السؤال الجهنمي " كيف يأتي الأطفال؟" مررت أولاً بحالة من الرفض والتكذيب ولما طاردني السؤال بدأت في البحث وتنويع المصادر خاصة خارج دائرة أقراني بخيالاتهم الجامحة حتى دحضت نظرتي المثالية في النهاية وتصالحت مع الحقيقة الجديدة.
إذا أعدت قراءة الفقرة السابقة ستلاحظ إدراج ثلاث خطوات لتغيير أي عقيدة فكرية أو بالأحرى ثلاث محطات يتجمع عندها البشر ، وهي صالحة لمدى واسع من الأفكار وعلى رأسها فكرة الوجود وطبيعته والخالق وماهيته وهواللغز الأكبر في تاريخ البشرية جمعاء.
@
المرحلة الأولى هي الإنكار والتكذيب ، فهو لا يحتمل مجرد التفكير فيما يخالف ما فُطم عليه ، شديد الهشاشة من الداخل وشديد العنف من الخارج ليحمي ضعفه لدرجة تغلب الفطرة الإنسانية ، يعاني أسوأ انواع الجهل وهو جهل الخوف من المعرفة ، يمثله جميع السلفيين من حملة الأسم المعاصرين حتى أبي جهل وقيافا.
المرحلة الثانية يتوقف فيها المفكر قبل أن يصل لنتيجة يخشاها ، فيبدأ بتطويع بحثه وتفكيره لخدمة ما ينحاز له وهو نموذج أقرب للتسامح منه للتشدد ، يميل لتعظيم أي دلائل عن الأفكار التي ينحاز إليها ويبالغ في نشرها على حساباته على الشبكات الإجتماعية ، ولوقوفه على ركائز غير ثابته هو مرشح للإنقلاب في أي لحظة يجمع فيها شتات ثقته بنفسه وبعض التمرد.
وأخيرًا المرحلة الثالثة ، الباحثون بلا إنحياز ، المجددون أفكارهم ، متمردون ، أكثر نشاطًا وتأثيرًا بطبيعتهم ، قلة منهم وكثرة من النوع الثاني يحركون مجتمعًا ، يصنعون ثورة فكرية. كثرة منهم لا تصنع مجتمعًا متماسكًا لذا فقد كتب عليهم الإغتراب والندرة والمعاناة في مراحل تصالحهم مع الحقيقة ، والتي تتصاعد سلمًا من التحديات للمجتمع الذي إرتضى حالة الرفض أو التطويع ، من درجة نقل الإعتقاد من السر إلى العلن وخاصة لدائرة الأسرة والأقرباء لأنهم يمثلون أحد النوعين السابقين في الغالب ومن ثم تبدأ مرحلة الصراعات التي تنتهي بالاستقلال المادي والنفسي ، ومنها تبدأ درجة أخرى وهي التطبيق العملي للأفكار المعتنقة والتي يرفضها المجتمع سواء بالعرف أو بالقانون.
وبصعوده تلك الدرجات يصبح أكثر قوة وصلابة من أقرانه في الطوائف الأخرى ، ويتحول إلى أب روحي للباحثين عن إرشاد من سار في الطريق ذاته مسبقًا لتنشر أسلوب الحياة الجديد وهي الدرجة التالية ويكون ذلك التجمع هو نواة تغير المجتمع فيما بعد.
وحتى يتغير المجتمع يظلون هم الضحايا ، هم قرابين الفكرة ، هم المقذوفون بالتهم الباطلة ، الشيطان الأعظم ، وإذا انتصرت الفكرة زينت أسماؤهم اللوحات الرخامية في الميدان التي يأخذ أصحاب النوعين الأولين الجدد وضعهم تحتها ليلتقطوا صورة.