الجزء الأول
الجزء الثاني
إقتادوني الى محل قديم يجلس في آخره رجل مسن ، لم ألتفت إليه ، وصرخت موجهًا حديثي لمن يمسكون بي "لن أترككم يا حثالة!"
"أتركوه." قال المسن.
تركوني وظللت واقفًا محتضنًا الساعة كما أمسكوني ، أنظر حولي ، المحل مجلد بخشب داكن اللون مهتريء الحالة ، تنتشر عليه الساعات و صور مسيحية مختلفة ، مكتب تقبع أدراجه تحت ألواح زجاجية تكشف ما يحتويها من ساعات ، وعليها تلفزيون صغير أحمر اللون له هوائيان ، يجلس من خلفه المسن موجهًا حديثه إليَّ.
المسن: "من أنت؟ ومن أين أتيت بتلك الساعة؟"
أنا: "وما شأنك؟"
المسن: "الساعة التي تحمل هي لسيدة تسكن في القريب ، سأبلغها بسرقتك."
أنا: "أنا أسكن لدى السيدة مارجريت ، وكنت أحاول إصلاح الساعة لأهديها لها."
نظر المسن إليَّ مدققًا لوهلة ، كأنه يختبر صدقي ، ثم وقف وأخرج الجميع من المحل بعد أن وجه لهم الشكر ، في تلك الأثناء وقعت عيني على ساعة معلقة تشبه الساعة التي أحملها بالضبط لكن بدون السن المدبب والترس الخلفي الكبير ، وقف المقدس جورج بجانب ساعته حيث تستقر عيناي ، وقال : " ليست ساعة حائط ، في الأساس هي ساعة خاصة بالأماكن العمومية كرصيف القطار أو الميادين لذا ترى جودة صناعتها ومتانتها من الداخل ، جلبها جيوفانيني ، الإيطالي الذي كان يسكن لدي مارجريت ، والده كان متخصصًا في ساعات الأماكن العامة ، أهداني الثانية لما إستطعت أن أدخل له التعديل الذي طلب على الساعة التي في يدك ، لم أفهم السبب ، لكنه طلب أن أغير له أماكن التروس و إضافة ترس كبير بدلاً من المجموعة الخاصة بتحديد التاريخ ، عذرًا يا بني للجلبة التي حدثت ، لكنك مررت عليّ و في يدك ساعة أعدت تصنيعها بيدي ، ولن تمتد لها يد غيري ، كان يجب أن أوقفك ، أعطني الساعة وسأصلحها كما فعلت مع جيوفانيني قبل سنوات."
لم أشعر بالغضب تجاه حيلته! الأهم أن لغز الساعة سوف يُحل ، تركتها من يدي للمقدس جورج عندما حاول أخذها وبدأ إصلاحها ، جلست أشرب القهوة التي طلبها لأجلي ، كنت أتابع الأحداث في رأسي منذ أن أتيت للشقة ، لازالت صناديقي وحقائبي مغلقة ، لم أنجز أي شيء في المهمة التي أتيت من أجلها ، لكن الفضول يقتلني ، من جيوفانيني؟ و لمن التماثيل ، ولماذا يضع ساعة في نجفة! ، لم أجد إجابة لذلك من المقدس جورج لما سألته ، نمت البارحة ساعتين بالكاد ، أعاني صداعًا قاسيًا ، لكن الشغف أكبر.
لم يطل إصلاح الساعة وأخذتها في يدي عائدًا ، هاتفت بكر وطلبت منه أن يأتيني الشقة ، ركبت الساعة بسهولة ، مع فتح المصباح يسقط ظل السن المدبب على السقف ، كأنه عقرب لساعة كبيرة هي السقف بكامله ، جاء بكر ، وضعت في يده خمسين جنيهًا.
بكر : يا الله ، لم تجد الكاميرا فقط.
أنا : أريد أن أعرف كل شيء عن جيوفانيني هذا والشقة العجيبة تلك.
بكر : قبل أي شيء عرفت من الساكن السابق انه عليك الإنتظار ل 23 سبتمبر حتى تضع الساعة.
أنا : قبل الساعة ، أود أن أعرف كل شيء عن جيوفانيني.
بكر : لا أعرف أكثر من كونه فنانًا إيطاليًا كان يعيش هنا ، والبعض كانوا يلمحون عن علاقة بينه وبين رزقة.
أنا : أين متعلقاته ؟
بكر : قد تكون هنا أو بالغرفة السفلية في مدخل البيت.
أنا : إبحث أنت بالأسفل ، وسأهتم أنا بما تحويه الشقة.
خرج بكر وبدأت أنا في البحث ، أي ورقة ، صورة ، أي شيء قد يفيد في فك لغز جيوفانيني ، تحدث بكر عن علاقة بينه وبين رزقة ، ربما تكون هي صاحبة الصورة في النيجاتيف ، و ربما أن تكون السمراء صاحبة المنحوتة التي تحمل السنابل ، ربما لا تعرف بوجود التمثال ، لا أستطيع أن أخمن شكلها وهي شابه لكي أقارن ، وهذا يعني وجود ثلاث نساء أخريات ، ما قصتهم؟ ، ماذا كان مصير جيوفانيني؟ وما دلالة الساعة في النجفة؟ والظل الواقع على السقف؟ وما قصة الساكن السابق؟ ولماذا 23 سبتمبر؟ مهلاً هذا يعني أن للساكن السابق محاولات لفك اللغز أيضًا ، ماذا حدث له؟
صوت طرقات على الباب ، لابد أن بكر وجد شيئًا مثيرًا ، إنتفضت أفتح الباب ، وجدت الجميع ، عابد و رزقة تستند إليها السيدة مارجريت وبكر واقفًا في الخلف.
ذهلت من الصدمة ، الآن عرف الجميع أني وجدت التماثيل ، والساعة والكاميرا ، رأت رزقة تمثالها ، لا أجد كلامًا لأقول.
أجلست رزقة السيدة مارجريت على الكرسي القريب ، ضحكت مارجريت ضحكة ساخرة وبدأت في الحديث " إرتبنا من بحث بكر في الغرفة السفلية ، فعرفنا منه كل ما حدث ، ماذا أفعل لهذه الشقة؟ لم يكمل يومه الثاني بعد ، ووجد كل شيء ، لم يعد في مصر كلها من ينظر للفن و الإهتمام بالتفاصيل بنظرة غير الريبة ، لم يعد يصدق أن أحدًا يبذل مجهودًا بلا طائل مادي ، حتى من يفترض كونهم فنانين ، كل ما ترى صنعه جيوفانيني ليعرف أين يضع سريره! ترى أركان الغرفة الأربعة الفضاء ، هذا يجعلها توفر ركنًا دافئًا في البرد ، هناك بجوار الغرفة الصغيرة ، وركنًا مقابلاً لطيفًا في الصيف تحت النافذة ، فكان جيوفانيني يغير موقعه على أساسه ، التماثيل الأربعة تمثل فصول السنة الأربعة ، وهي منحوتات شهيرة ويوجد منها نسخة في حدائق أنطونيادس بالإسكندرية ، حاملة العنب تمثل الخريف ، وصاحبة السنابل هي الصيف ، والمتغطية بالرداء هي الشتاء والممسكة بالزهور تمثل الربيع ، و يوجد خطأ في تركيب الساعة بالتأكيد ، تركيب الساعة لابد أن يكون في سنة غير كبيسة وفي أيام بدايات الفصول ، ترسها الخارجي من 365 سن كأيام السنة ما يجعل المصباح يدور حول السن المدبب دورة كاملة كل سنة ، ظل السن المدبب لابد أن يشير بالقرب من صاحبة السنابل لأننا في فصل الصيف ، إذًا فالمكان الأفضل للجلوس في هذا الوقت هو أسفل التمثال.
أضطررنا لإخفاء كل تلك التفاصيل لما ظن ساكن سابق ان جيوفانيني كان ساحرًا و المكان مسكون ، لكن فن جيوفانيني كان يصرخ خلف الحواجز ، لأن عمل كهذا لا يصح أن يتوارى على الإطلاق."
شعرت بالصدمة ، بالخواء ، إحمر وجهي وجحظت عيناي ، زاد ضغط الدم ، وتوحش الصداع كطرقات شواكيش ، أحسست بأني لم أنم منذ قرن ، تجولت عيناي بين أعمال جيوفانيني ، نزل الجميع وتركوني على حالتي ، نقلت السرير تحت حاملة السنابل ، و نمت.
الجزء الأول
الجزء الثالث
لم تمض بضع ساعات حتى كانت الأقماع في أركان الغرفة الاربعة قد أُزيلت تمامًا لتكشف عن تماثيل نصفية عارية لأربع نساء متبايني الملامح كل منهن تأتي بفعلٍ مختلف ، فالأولى رقيقة أوروبية الملامح تمسك بزهور بين راحتيها تستعد لتنفخ فيها بفمها الصغير لتنتشر في الغرفة ، وأخرى ذات شعر مموج وعيون واسعة وأثداء مشدودة ، تبدو نظراتها في غاية الشهوانية و هي تلتقط بفمها ثمرة عنب من عنقود تمسكه ، و الثالثة لها ملامح حادة ، ونظرة جافة توحي بالقوة ، تمسك رداءً تغطي به كتفيها ، أما الأخيرة فإفريقية الملامح ، تنظر بكثير من الحب للسنابل التي تحملها ، التي عليّ أن أجد وسيلة لألصقها الآن.
نمت ساعتين فقط رغم إرهاق الليلة الماضية ، لم أستطع الإنتظار طويلاً تاركًا التمثال المكسور على حالته.
تجولت في المنطقة للمرة الأولى ، لم أبتعد كثيرًا لأجد محلاً قد يبيع لي اللاصق.
أنا : أبحث عن لاصق قوي من فضلك.
البائع : ماذا ستلصق به؟ لدي لاصق للبلاستيك ولاصق للمعادن.
أنا : حسنًا أعطني لاصق المعادن.
تذكرت إني رأيت لاصق المعادن يستخدم لدينا في المنزل قبلاً ، أتمنى أن يفي بالغرض.
أخذت اللاصق وإستدرت لأجد بكر خلفي ، بكر هو أحد أبناء عم عابد ، يبلغ حوالي سبعة عشر عامًا ، طويل ونحيف ذو بشرة سمراء ، حاول التلميح لي من قبل إنه يسهل كل شيء ويقضي كل المهام ، بعد أن إشترى شيئًا لم أتبينه قال لي : أراك قد وجدت الكاميرا بسرعة.
أنا : أي كاميرا؟!
بكر : إعلم أولاً إني في صفك ، و ها أنا أبدي حسن النية ، الكاميرا التي وجدت أعلى السلم تحتاج بعض الصيانة قبل لصقها ، وهذه الورقة بها رقم هاتفي.
تركني مذهولاً وذهب.
بجوار باب الشقة يوجد سلم ضيق يقود لسطح المبنى ، وجدت في آخره بالفعل أشياء ملقاه منها كاميرا "زينيت" سليمة المتن لكن عدستها مفصولة و مكسورة من الداخل ، وساعة حائط كبيرة فقدت غطاءها الخلفي ما عرض تروسها للأتربة.
نزلت بهما الى الشقة ، إنتهيت من لصق الجزء المكسور من التمثال ، ثم صنعت بعض القهوة ، ولففت سيجارة وجلست أنظر للكاميرا ، كان والدي يملك واحدة مثلها ، صناعة سوفيتية ، لابد انها سقطت من إرتفاع حتى تنكسر ، ليست ذات أهمية كبيرة لي ، سوى إمكانية إصلاحها وبيعها ، أما الساعة فشديدة الغرابة ، يخرج من وسطها بين القارب سن مدبب ، تروسها كبيرة ومشحمة ، أكبرهم ترس بكامل إستدارتها من الخلف ، يوجد على إطارها الخارجي آثار لحام ، ربما تباع هي الأخرى ، البعض يلقي ما لا يدرك قيمته.
بعد لصق التمثال صرت جاهزًا للبدء في التدريب ، أخرجت من حقيبتي النوت الموسيقية ، يكفيني ما أضعت من الوقت ، بعض الإيقاعات الجديدة تحتاج ساعات من التدريب المستمر ، تذكرت شيئًا ، أمسكت الكاميرا ، بدأت أعبث بها ، لا أذكر كيفية فتحها ، حاولت حتى تمكنت الوصول لقلبها ، كنت صائبًا ، يوجد بها نيجاتيف لم يكتمل إستخدامه ، فتحت النافذة ورفعته لمستوى نظري لأتبين الصور الموجودة عليه ، ثلاث صور ، الأولى لرجل يقف في وسط حديقة يها تماثيل ، والثانية لنفس الرجل ومعه على ما يبدو إمرأة عارية داكنة البشرة ، والأخيرة للنجفة في الغرفة التي أعيش بها ، بنفس شكلها الحالي لكن مضاف إليها الساعة التي وجدت قبل قليل.
كالعادة لم يترك فضولي فراغًا لأفكر في شيء آخر ، أخذت الساعة و تجولت في الشارع بحثًا عن من يصلحها ، وأنا أعتصر عقلي لأخرج بجدوى تركيب الساعة في نجفة ، وعقاربها لأسفل ، لا يمكنك تبينها إلا إذا نظرت إليها من الأسفل ، مكان غريب لساعة ، بدأ الصداع يضرب من جديد ، قضيت نصف النهار أتجول في الشارع والشمس في أقوى فتراتها ، والتفكير في ما وراء تلك الساعة يكاد يقضي عليّ ، نشط الصداع في رأسي مجددًا ، أكاد أستسلم ، يبدو أنني سأعود لأنام قليلاً وأستكمل البحث فيما بعد.
أحسست بيد تمسك كتفي ، نظرت خلفي لأجد شخصًا يصرخ "أيها اللص" ، صدمت و صرخت فيه بدوري "ماذا تقول أيها المعتوه؟!" رد موجهًا حديثه للمارة "لقد سرق ساعة المقدس جورج.
.... يتبع
"
الجزء الثاني
الجزء الثالث
أخيرًا أُنجزت المهمة ، وجدت مكانًا مناسبًا للإقامة ، نقلت كل ما إستطعت لأبدأ مرحلة جديدة من الإقامة الطويلة بالقاهرة بخلاف السنوات الثلاث الماضية من الإقامة لفترات قصيرة متقطعة. العثور على هذا الشقة إنجاز بكل المقاييس ، شقة وحيدة في طابقها ، والطابق أسفلها خالٍ من السكان ما يناسب صخب حياة عازف "درامز" يقضي أغلب الليل في العزف والتمرين ، قريبة من أماكن سكن و تسجيل الأصدقاء مما يوفر عناء الإنتقالات ، إيجار بخس بالنظر الى موقعه في قلب مصر الجديدة بميدان الإسماعيلية ، لا يوجد في البيت إلا عائلة عم عابد حارس العقار في الطابق السفلي والسيدة صاحبة البيت وخادمتها رزقة في الطابق الأول ، أحسست معهم جميعًا بمودة حتى العجوز صاحبة البيت التي رأتني على باب شقتها فأومأت لعم عابد موافقة وإستدارت دون أن تنبس ببنت شفة ، وكان بمثابة إمضاءها على عقد الإيجار ، لم يتبق بعد هذه الإيماءه سوى بعض التفاصيل إتفقت عليها مع عم عابد.
أغلقت بابها علىَّ للمرة الأولى ووجدت في أحد أركانها كرسي هزاز قررت إلتقاط أنفاسي عليه ، يبدو حقير الهيئة من بعيد لكنه متين ، مشغول بالصدف في تكوينات سداسية بديعة ، أو ستبدو بديعة بدون تلك الطبقات المتحجرة من الأتربة ، رفعت قدمي على المنضدة الصدفية الصغيرة المشغولة بنفس التكوينات ، وأسلمت رأسي لمسند الرأس وإفتعلت هزة صغيرة محاولاً الإسترخاء قبل عملية تفريغ الحقائب والصناديق التي تتراكم فوق بعضها أمامي ، تظهر في وسط السقف دائرة مزخرفة بنجوم بارزة ، من أطرافها تتدلى ثلاث سلاسل تمسك دائرة حديدية جوفاء معلق فيها دائرة أخرى أقل سمكًا مسننة من الداخل ومثبت عليها من الأسفل قواعد مصابيح مكسورة جميعها عدا واحدة فقط يشع ضوء مصباحها خجلاً بين الأتربة ، وفي أركان السقف الأربعة نهايات مخروطية الشكل تهبط على أربعة أعمدة يظهر ربع دورانها فقط حتى يتوارى في الحائط.
الشقة مقسمة على نحو عجيب ، هي غرفة واحدة واسعة ، وغرفة أخرى ضيقة ، وحمام و مطبخ ، لن أستطع إذًا تركيب الطبول إلا في الغرفة الكبرى ، لكن على أولاً أن أدفع الدولاب في طرف الغرفة بدلًا من وسطها لأحقق الإستغلال الأمثل للمساحة ، لكن كيف أنقله ، وهو ثقيل كحجر سيزيف!
بدأت أفصل أجزاءه عن بعضها ، أزلت أولاً القطع العرضية وبدأت الدفع بلا فائدة ، ففصلت الأبواب أيضًا و دفعت بكل قوتي حتى أحسست بالدماء تندفع في رأسي ، يؤلمني الصداع كنبضات تزداد مع الدفع ، بدأ يتحرك قليلًا وأنا مستمر في الدفع ، وفجأة سمعت صوت كسر ، نظرت فزعًا لأرى جانب الدولاب قد مال ساقطًا على المخروط في جانب الحائط وتركه مكسورًا.
رفعت هذا الجزء اللعين من الدولاب ووضعته جانبًا ، وأخذت أجمع أشلاء المخروط من الأرض ، يا إلهي! أهكذا يسير أول أيامي هنا؟! كيف سأصلحه؟! لابد أن أستعين ببعض الأصدقاء هنا ، ماذا لو لاحظ أحد الكسر الذي فعلت؟! لابد أنهم سمعوا الصوت و سأسمع طرقاتهم الآن.
وجدت شيئًا وسط أجزاء المخروط ، قطعة صغيرة مصنوعة من مادة حجرية ، قطعة من سنبلة قمح ، نظرت الى أعلى ، للجزء المكسور في القمع فوجدته يخفي تحته شيئًا آخر لابد أن تلك السنبلة قطعة منه!
..... يتبع